بسم الله الرحمن الرحيم
ابن قيّم الجوزيّة: ابن تيميّة يخبر عمّا في اللّوح المحفوظ
لطالما رمى الوهابيّةُ الشيعةَ بالغلوّ والكُفر؛ لأنّهم يعتقدون أنّ أئمتهم مطّلعون على الغيب، مع أنّهم صرّحوا مراراً بأنّ هذا العلم إنما هو تعليمٌ من الله عزّ وجلّ ووراثة من رسول الله (صلى الله عليه وآله) وليس علماً استقلالياً، وفي الوقت نفسه نجدُ أنّ ابن قيّم الجوزيّة تلميذ ابن تيمية الحراني يعتقدُ في أستاذه مثل ذلك تماماً، ولا تجدُ عليه نكيراً.
قال ابن قيم الجوزيَّة في كتابه (مدارج السالكين، ج٣، ص٣٠٩-٣١١، الناشر: دار عطاءات العلم للنشر):
(ولقد شاهدتُ من فراسة شيخ الإسلام ابن تيمية أموراً عجيبةً، وما لم أشاهده منها أعظم وأعظم. ووقائع فراسته تستدعي سِفراً ضخماً.
وأخبر أصحابَه بدخول التّتار الشّام سنة تسعٍ وتسعين وستِّمائةٍ، وأنّ جيوش المسلمين تُكْسَر، وأنّ دمشق لا يكون بها قتلٌ عامٌّ ولا سبيٌ عامٌّ، وأنّ كَلَب الجيش وحدَّتهُ في الأموال. هذا قبل أن يَهُمَّ التّتار بالحركة.
ثمّ أخبر النّاسَ والأمراءَ سنة اثنتين وسبعمائةٍ لمّا تحرّك التّتار وقصدوا الشّام: أنّ الدّائرة عليهم والهزيمة، والظّفر والنّصر للمسلمين. وأقسم على ذلك أكثر من سبعين يميناً. فيقال له: قل إن شاء الله. فيقول: إن شاء الله تحقيقاً لا تعليقاً. سمعته يقول ذلك. قال: فلمّا أكثروا عليَّ قلت: لا تُكثروا، كتب الله تعالى في اللّوح المحفوظ أنّهم مهزومون في هذه الكرَّة، وأنّ النصر لجيوش الإسلام. قال: وأطعمتُ بعضَ الأمراء والعسكر حلاوةَ النّصر قبل خروجهم إلى لقاء العدوِّ.
وكانت فراساته الجزئيّة في خلال هاتين الواقعتين مثل المطر.
ولمّا طُلِب إلى الدِّيار المصريّة وأُريد قتله - بعد أن أُنضِجت له القدور، وقُلِّبَتْ له الأمور - اجتمع أصحابه لوداعه، وقالوا: قد تواترت الكتب بأنّ القوم عاملون على قتلك. فقال: والله لا يَصِلُون إلى ذلك أبداً. قالوا: فتُحْبَس؟ قال: نعم، ويطول حبسي، ثمّ أَخرُج وأتكلَّمُ بالسُّنة على رؤوس المنابر. سمعته يقول ذلك.
ولمّا تولّى عدوُّه الملقّب بالمظفَّر الجاشَنْكير الملك أخبروه بذلك، وقالوا: الآن بلغ مراده منك. فسجد لله شكراً وأطال. فقيل له: ما سببُ هذه السّجدة؟ فقال: هذا بداية ذُلِّه، وفارقَه عزُّه من الآن، وقرُبَ زوالُ أمره. فقيل له: متى هذا؟ فقال: لا تُربَطُ خيولُ الجند على القُرْط حتى تُقلَب دولته. فوقع الأمر مثلَ ما أخبر به. سمعت ذلك منه وعنه.
وقال مرّةً: يدخل عليَّ أصحابي وغيرهم، فأرى في وجوههم وأعينهم أموراً لا أذكرها لهم. فقلتُ له أو غيري: لو أخبرتَهم؟ فقال: أتريدون أن أكون معرِّفاً كمعرّف الولاة؟
وقلت له يوماً: لو عاملْتَنا بذلك لكان أدعى إلى الاستقامة والصلاح، فقال: لا تصبرون معي على ذلك جمعةً، أو قال: شهراً.
وأخبرني غير مرّةٍ بأمورٍ باطنةٍ تختصُّ بي، ممّا عزمتُ عليه ولم ينطِقْ به لساني.
وأخبرني ببعض حوادثَ كبارٍ تجري في المستقبل، ولم يُعيِّن أوقاتَها، وقد رأيت بعضها وأنا أنتظر بقيّتها.
وما شاهده كبار أصحابه من ذلك أضعافُ أضعافِ ما شاهدتُه).
وهذا التصريح من ابن قيم الجوزيّة في واقعه يمثّل شهادةً بعدم المنافاة بين علم الأئمّة (عليهم السلام) ونصوص القرآن الكريم التي تحصر علم الغيب في الله عزّ وجلّ.