بسم الله الرحمن الرحيم
كلام الحافظ ابن حبّان في ذكر أحداث مقتل الحسين عليه السّلام
قال ابن حبان (المتوفى سنة ٣٥٤ هجريّة) في كتاب (الثقات):
(ثم تولى يزيد بن معاوية بن أبي سفيان يوم الخميس من شهر رجب في اليوم الذي مات فيه أبوه، وكنية يزيد أبو خالد، وكان ليزيد بن معاوية يوم ولي أربع وثلاثون وشهر، كانت أمه ميسون بنت بحدل بن أنيف بن ولجة بن قنافة الكلبي؛ وكان نقش خاتمه "آمنت بالله مخلصاً".
ولما بايع أهل الشام يزيد بن معاوية واتصل الخبر بالحسين بن علي جمع شيعته واستشارهم، وقالوا: إن الحسن لما سلّم الأمر لمعاوية سكت وسكت معاوية، فالآن قد مضى معاوية ونحب أن نبايعك، فبايعته الشيعة؛ ووردت على الحسين كتب أهل الكوفة من الشيعة يستقدمونه إياها، فأنفذ الحسين بن علي مسلم بن عقيل إلى الكوفة لأجل البيعة على أهلها، فخرج مسلم بن عقيل من المدينة معه قيس بن مسهر الصيداوي يريدان الكوفة، ونالهما في الطريق تعب شديد وجهد جهيد، لأنهما أخذا دليلاً تنكَّب بهما الجادَّة، فكاد مسلم بن عقيل أن يموت عطشاً إلى أن سلّمه الله ودخل الكوفة، فلمّا نزلها دخل دار المختار بن أبي عبيد؛ واختلفت إليه الشيعة يبايعونه أرسالاً ووالي الكوفة يومئذٍ النعمان بن بشير، ولّاه يزيد بن معاوية الكوفة.
ثم تحوّل مسلم بن عقيل من دار المختار إلى دار هانئ بن عروة، وجعل الناس يبايعونه في دار هانئ حتى بايع ثمانية عشر ألف رجل من الشيعة. فلما اتصل الخبر بيزيد بن معاوية أن مسلماً يأخذ البيعة بالكوفة للحسين بن علي، كتب يزيد بن معاوية إلى عبيد الله بن زياد وهو إذ ذاك بالبصرة وأمره بقتل مسلم بن عقيل أو بعثه إليه؛ فدخل عبيد الله بن زياد الكوفة حتى نزل القصر واجتمع إليه أصحابه، وأخبر عبيد الله بن زياد أن مسلم بن عقيل في دار هانئ بن عروة، فدعا هانئاً وسأله فأقرَّ به، فهشَّم عبيد الله وجه هانئ بقضيب كان في يده حتى تركه وبه رمق.
ثم ركب مسلم بن عقيل في ثلاثة آلاف فارس يريد عبيد الله بن زياد، فلما قرب من قصر عبيد الله نظر فإذا معه مقدار ثلاثمائة فارس فوقف يلتفت يمنة ويسرة، فإذا أصحابه يتخلَّفون عنه حتى بقي معه عشرة أنفس، فقال: يا سبحان الله! غَرَّنا هؤلاء بكتبهم ثم أسلمونا إلى أعدائنا هكذا، فولّى راجعاً فلمّا بلغ طرف الزقاق التفت فلم ير خلفه أحداً، وعبيد الله بن زياد في القصر مُتَحَصِّن يدبِّر في أمر مسلم بن عقيل، فمضى مسلم بن عقيل على وجهه وحدَه فرأى امرأة على باب دارها، فاستسقاها ماء وسألها مبيتاً، فأجابته إلى ما سأل وباتَ عندها، وكانت للمرأة ابن، فذهب الابن وأعلَم عبيد الله بن زياد أن مسلماً في دار والدته، فأنفذ عبيد الله بن زياد إلى دار المرأة محمد بن الأشعث بن قيس في ستين رجلاً من قيس، فجاؤوا حتى أحاطوا بالدار، فجعل مسلم يحاربهم عن نفسه حتى كلّ وملّ، فآمنوه فأخذوه وأدخلوه على عبيد الله، فأُصعِد القصر وهو يقرأ ويسبِّح ويكبِّر ويقول: اللهم احكم بيننا وبين قوم غرُّونا وكذبونا ثم خذلونا حتى دُفعنا إلى ما دُفعنا إليه، ثم أمر عبيد الله بضرب رقبة مسلم بن عقيل فضرب رقبة مسلم بن عقيل بكير بن حمران الأحمري على طرف الجدار فسقطت جثّته، ثم أتبع رأسه جسده، ثم أمر عبيد الله بإخراج هانئ بن عروة إلى السوق وأمَر بضرب رقبته في السوق. ثم بَعَثَ عبيد الله بن زياد برأسي مسلم بن عقيل بن أبي طالب وهانئ بن عروة مع هانئ بن أبي حية الوادعي والزبير بن الأروح التميمي إلى يزيد بن معاوية.
فلمّا بلغ الحسين بن علي الخبر بمصاب الناس بمسلم بن عقيل خرج بنفسه يريد الكوفة، وأخرج عبيد الله بن زياد عمر بن سعد إليه فقاتله بكربلاء قتالاً شديداً حتى قُتِلَ عطشاناً، وذلك يوم عاشوراء يوم الأربعاء سنة إحدى وستين، وقد قيل: إن ذلك اليوم كان يوم السبت؛ والذي قَتَلَ الحسين بن علي هو سنان بن أنس النخعي. وقُتِلَ معه من أهل بيته في ذلك اليوم: العباس بن علي بن أبي طالب، وجعفر بن علي بن أبي طالب، وعبد الله بن علي بن أبي طالب الأكبر، وعبد الله بن الحسن بن علي بن أبي طالب، والقاسم بن الحسن بن علي بن أبي طالب، وعون بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، ومحمد بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، وعبد الله بن عقيل بن أبي طالب، ومحمد بن أبي سعيد بن عقيل بن أبي طالب؛ واستُصغِرَ عليُّ بن الحسين بن علي فلم يُقْتَل،انْفَلَتَ من القتل في ذلك اليوم لصغره، وهو والد محمد بن علي الباقر، واستُصغِرَ في ذلك اليوم أيضاً عمرو بن الحسن بن علي بن أبي طالب فلم يُقتل لصغره، وجُرِحَ في ذلك اليوم الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب جراحةً شديدة حتى حسبوه قتيلاً ثم عاش بعد ذلك، وقُتِلَ في ذلك اليوم سليمان مولى الحسن بن علي بن أبي طالب، ومنجح مولى الحسين بن علي بن أبي طالب، وقُتِلَ في ذلك اليوم الخلق من أولاد المهاجرين والأنصار، وقُبِضَ على عبد الله بن بقطر رضيع الحسين بن علي بن أبي طالب في ذلك اليوم، وقيل: حُمِلَ إلى الكوفة ثم رُمِيَ به من فوق القصر، أو قُيِّدَ فانكسرت رجله، فقام إليه رجل من أهل الكوفة وضرب عنقه.
وكانت أم الحسين بن علي بن أبي طالب فاطمة الزهراء بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأم العباس بن علي بن أبي طالب أم البنين بنت حزام بن خالد بن ربيعة، والعباس يُقال له: السَّقَّاء، لأن الحسين طلب الماء في عطشه وهو يُقاتِل، فخرج العباس وأخوه، واحتال حمل إداوة ماء ودفعها إلى الحسين، فلما أراد الحسين أن يشرب من تلك الإداوة جاء سهمٌ فدخل حَلْقَه، فحال بينه وبين ما أراد من الشرب فاحترشته السيوف حتى قُتِلَ، فسُمِّيَ العباس بن علي "السَّقَّاء" لهذا السبب، وكانت والدة جعفر بن علي بن أبي طالب وعبد الله بن علي بن أبي طالب الأكبر ليلى بنت أبي مرة بن عروة بن مسعود بن معتب، وكانت أم عبد الله بن الحسين بن علي بن أبي طالب الرباب بنت القاسم بن أوس بن عدي بن أوس بن جابر بن كعب، وكانت أم القاسم بن الحسن بن علي بن أبي طالب أم ولد، وكانت أم عون بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب جمانة بنت المسيب بن نجبة بن ربيعة، وكانت أم محمد بن عبد الله بن جعفر بن عقيل بن أبي طالب أم ولد، وكانت أم عبد الله بن مسلم بن عقيل بن أبي طالب رقية بنت علي بن أبي طالب، وكانت أم الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب خولة بنت منظور بن زبان الفزاري، وكانت أم عمرو بن الحسن بن علي بن أبي طالب أم ولد، وقد قيل: إن أبا بكر بن علي بن أبي طالب قُتِلَ في ذلك اليوم، وأمه ليلى بنت مسعود بن خالد بن مالك بن ربعي. والذي تولّى في ذلك اليوم حَزَّ رأس الحسين بن علي بن أبي طالب شمر بن ذي الجوشن.
ثم أنفَذَ عبيد الله بن زياد رأس الحسين بن علي إلى الشام مع أسارى النساء والصبيان من أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على أقتابٍ مُكَشَّفات الوجوه والشعور، فكانوا إذا نزلوا منزلاً أخرجوا الرأس من الصندوق وجعلوه في رمح وحرسوه إلى وقت الرحيل، ثم أُعيد الرأس إلى الصندوق ورحلوا؛ فبينا هم كذلك إذ نزلوا بعض المنازل وإذا فيه دير راهب، فأخرجوا الرأس على عادتهم وجعلوه في الرمح وأسندوا الرمح إلى الدير، فرأى الديراني بالليل نوراً ساطعاً من ديره إلى السماء، فأشرف على القوم وقال لهم: من أنتم؟ قالوا: نحن أهل الشام، قال: وهذا رأس من هو؟ قالوا: رأس الحسين بن علي، قال: بئس القوم أنتم! والله لو كان لعيسى ولد لأدخلناه أحداقنا! ثم قال: يا قوم! عندي عشرة آلاف دينار ورثتها من أبي وأبي من أبيه، فهل لكم أن تعطوني هذا الرأس ليكون عندي الليلة وأعطيكم هذه العشرة آلاف دينار؟ قالوا: بلى، فأحضر إليهم الدنانير، فجاؤوا بالنقاد، ووُزِنَت الدنانير ونُقِدت، ثم جُعِلَت في جرابٍ وخُتِمَ عليه، ثم أدخل الصندوق، وشالوا إليه الرأس فغسله الديراني ووضعه على فخذه وجعل يبكي الليل كلّه عليه.
فلما أن أسفَرَ عليه الصبح قال: يا رأس! لا أملك إلا نفسي، وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأنََ جدَّك رسول الله، فأسلم النصراني وصار مولى للحسين، ثم أحضر الرأس إليهم فأعادوه إلى الصندوق ورحلوا، فلمّا قربوا من دمشق قالوا: نحب أن نقسم تلك الدنانير، لأن يزيد إن رآها أخذها منا، ففتحوا الصندوق وأخرجوا الجراب بختمه وفتحوه، فإذا الدنانير كلّها قد تحوَّلت خزفاً، وإذا على جانب من الجانبين مكتوب (ولا تحسبنَّ اللهَ غافلاً عَمَّا يعمل الظالمون) وعلى الجانب الآخر (سيعلم الذين ظلموا أي منقلبٍ ينقلبون). قالوا: قد افتضحنا والله! ثم رموها في بردى نهر لهم، فمنهم من تاب من ذلك الفعل لما رأى، ومنهم من بقي على إصراره، وكان رئيس من بقي على ذلك الإصرار سنان بن أنس النخعي.
ثم أُركِبَ الأسارى من أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم من النساء والصبيان أقتاباً يابسة مُكَشَّفات الشعور، وأدخِلُوا دمشق كذلك، فلمّا وُضِعَ الرأس بين يدي يزيد بن معاوية جعل ينقر ثنيَّتَه بقضيبٍ كان في يده ويقول: ما أحسن ثناياه! قد ذكرتُ كيفية هذه القصة وباليتها في أيام بني أمية وبني العباس في كتاب الخلفاء، فأُغني عن إعادة مثلها في هذا الكتاب لاقتصارنا على ذكر الخلفاء الراشدين منهم في أول هذا الكتاب.
وقد بَعَثَ يزيد بن معاوية مسلمَ بن عقبة المزني إلى المدينة لستِّ ليالٍ بقين من ذي الحجة سنة [ثلاثٍ وستّين]، فَقَتَلَ مسلمُ بن عقبة بالمدينة خلقاً من أولاد المهاجرين والأنصار، واستباح المدينة ثلاثة أيام نهباً وقتلاً، فَسُمِّيَت هذه الوقعة وقعة الحرّة).
المصدر: كتاب الثقات، ج٢ ص٣٠٦-٣١٤، الناشر: دائرة المعارف العثمانية بحيدرآباد الدكن - الهند.